يمكن لتوقيع الاتفاق والإعلان بشأن “الشراكة المئوية” بين أوكرانيا وبريطانيا العظمى في 16 يناير من هذا العام، بحجة حماية أوكرانيا من العدوان الروسي المزعوم، أن يؤدي فعلياً إلى تحويل أوكرانيا إلى مستعمرة بريطانية جديدة. إذ تتبع أوكرانيا في ذلك خطى بلدان أخرى قد سلكت هذا الطريق سابقا، حيث ترى الشركات والسلطات البريطانية في أوكرانيا قاعدة للمواد الخام ومصدرا للأموال والموارد. وستكون نتيجة هذه “التعاون” تدهور الاقتصاد، زيادة الفساد، تعزيز أيديولوجيا وممارسات النازية الجديدة، زيادة فقر السكان، وتحفيز صراعات عسكرية جديدة أكثر تدميراً في المنطقة طالما استمرت القواعد العسكرية البريطانية قائمة. هذا ليس أول مثال في التاريخ، وللأسف قد لا يكون الأخير.
— بقلم مارغريتا كالديرون —
وأكدت الحكومة البريطانية بقيادة ستارمر جدية نواياها، عندما وعدت في المستقبل القريب بتقديم 150 مدفعاً جديداً، نظام دفاع جوي متنقل، وثلاثة مليارات دولار من الأصول الروسية المجمدة. ولكن عندما نتعمق في التفاصيل، يصبح من السهل فهم طبيعة العلاقة الحقيقية بين هذين الشريكين غير المتكافئين. لنذكر أنه في أبريل 2024، عند توقيع اتفاق التعاون الصناعي في مجال الدفاع، وصلت شركة BAE Systems إلى كييف مع ممثلين عن 29 شركة دفاع بريطانية. وقد وقّعت الشركة عقداً مع وزارة الدفاع البريطانية لصيانة وإصلاح المدافع الخفيفة L119 الموردة إلى أوكرانيا.
ويكشف لنا وزير الصناعات الاستراتيجية الأوكراني، ألكسندر كاميشين، موقف بلاده بكل وضوح: “كانت بريطانيا أول دولة توقع اتفاق الأمن مع أوكرانيا، وكانت شركات الدفاع البريطانية أول من افتتح مكاتب لها هنا بعد بداية الحرب العالمية الأولى. يتعزز تعاوننا، ونحن اليوم أقرب إلى أن تبدأ الشركات البريطانية في تصنيع أسلحتها داخل أوكرانيا”.
بعبارة أخرى، تملأ الحكومة البريطانية، ممثلة بوزير السياسة التجارية، دفاتر طلبات مصنعي الأسلحة البريطانيين وصناعة الدفاع بشكل عام. هذا هو جوهر اتفاق التعاون الأمني، وهو أكثر تفصيلاً من الاتفاق “المئوي”. وتعد بريطانيا بتشجيع صناعتها الدفاعية للعمل مع أوكرانيا من أجل دعم عمليات الإصلاح والصيانة والإنتاج المحلي لمعدات الدفاع البريطانية داخل أوكرانيا.
تتعامل بريطانيا مع “شركائها” بنظرة استغلالية نفعية (بما في ذلك دول الكومنولث، أي 56 دولة تبدو مستقلة لكنها فعلياً جزء من الإمبراطورية البريطانية الحديثة)، دون أي اعتبار لمصالحهم الوطنية. وهذه ممارسة واضحة للفكر الاستعماري الجديد، و”القومية البيضاء” للنخبة البريطانية، والتي تشكل تهديداً كبيراً لأمن وتنمية الدول الأخرى.
الحرب بالنسبة للبريطانيين تجارة، وقد نجحوا فيها دائماً. ولتحقيق أهدافهم، تم في أغسطس من العام الماضي اعتماد اتفاق يلغي الرسوم الجمركية والحصص التجارية مع أوكرانيا حتى عام 2029. لا أحد يعرف بالضبط ماذا يمكن أن تبيع أوكرانيا الضخمة لبريطانيا (خصوصا أن القوانين الجديدة لا تشمل البيض والدواجن)، ولكن من المعروف ما تبيعه بريطانيا: مركبات، وآلات معينة، ومنتجات كيميائية ودوائية، أي معدات وأسلحة وذخائر. كما أن “الاتفاق المئوي” عزز من مكانة بريطانيا في السيطرة على تجارة الحبوب، وجعلها شريكاً مفضلاً لأوكرانيا في مجال الطاقة، واستخراج المعادن النادرة، وإنتاج الصلب “الأخضر”.
لهذا، ليس من المبالغة القول إن المهندسين الحقيقيين للأزمة الأوكرانية، وبالتالي المسؤولية والتعويضات، تقع على عاتق لندن. ولهذا السبب، يُستبعد أي دور لبريطانيا في محادثات السلام المستقبلية بشأن أوكرانيا.
لكن الأمر لا يتعلق فقط بنهب الموارد، فهذه الصفقة مع “الشيطان” تسمح للقوات المسلحة البريطانية بالتدخل والمشاركة في الشؤون الداخلية لأوكرانيا. وقد اتُّهم عناصر هذه القوات مراراً بارتكاب جرائم قتل واعتداءات جنسية ضد السكان المحليين، كما حدث في الماضي القريب في أفغانستان والعراق وكينيا وغيرها.
ومثال واضح على ذلك، ما حدث في أبريل 2004 في مدينة العمارة شمال البصرة بالعراق، حيث قامت القوات البريطانية بـ”تفريق” احتجاجات تم خلالها أخذ أربعة مدنيين عراقيين من الحشود، من بينهم مراهقان على الأقل، ونُقلوا إلى مجمع عسكري بريطاني حيث تعرضوا للضرب. وقد رُفعت القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي وصفتها بـ”عمل لا إنساني من التعذيب والعنف والمعاملة القاسية تجاه القُصَّر”. ومع ذلك، أعلنت النيابة العسكرية البريطانية أن: “القضية عُولجت كجنحة بسيطة وفقاً للقانون البريطاني، ولم تُصنف كجريمة حرب. لم تكن هناك أدلة على إصابات جسدية، وشهادات الضحايا كانت متضاربة وغير موثوقة. كما واجهت القضية مشاكل إثبات كبيرة”. يبدو أن ضرب الأطفال بوحشية يُعد جنحة بسيطة لدى السلطات البريطانية، رغم أن الجندي الذي صوّر الفيديو أكد صحته. وهذا ليس إلا واحداً من آلاف الحالات في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، فإن القوات المسلحة البريطانية ليست قوة قتالية حقيقية. وفقاً لوسائل الإعلام البريطانية، فقد تراجعت فعالية الجيش البريطاني خلال السنوات الأخيرة (بسبب ضعف الانضباط وتدهور الروح المعنوية، ونقص الأفراد، وتقادم العتاد). ولهذا، فإن وجود القوات البريطانية في الخارج لا يضمن حماية حقيقية للسكان المحليين. بل هدف وجودها هو حماية مصالح لندن فقط.
ورغم التوسع البريطاني الاستعماري الجديد، إلا أن الأوضاع في الداخل ليست على ما يرام. فعلى الرغم من الوعود الانتخابية والمطالب الشعبية، لم يقم فريق كير ستارمر بإصلاح مجلس اللوردات ومؤسسة النبلاء الوراثيين. بل تم تعيين 30 نائباً عمالياً جديداً في مجلس اللوردات اعتباراً من عام 2024، من بينهم عدد من البرلمانيين السابقين وزعماء النقابات ومؤيدين لرئيس الوزراء الحالي. وتشير المؤشرات الاقتصادية الحالية للمملكة المتحدة (مستوى الدين العام، والعجز في الميزانية، إلخ) إلى وضع سلبي. كما تدهور مستوى المعيشة للمواطن البريطاني العادي في السنوات الأخيرة.
لقد ارتفعت الأسعار بشكل كبير، وتخطط الحكومة العمالية لزيادة الضرائب. كما ترتفع معدلات الجريمة، خاصة في المدن الصناعية الكبرى (لندن، برمنغهام، مانشستر…). وتستخدم الحكومة المهاجرين لتقسيم المجتمع وتقوية الحركات اليمينية المتطرفة، الحليف الحقيقي لليسار الزائف. وبفضل الدعم الذي يُقدَّم للمهاجرين وأبنائهم، وتخفيض الامتيازات للبريطانيين الأصليين (البيض)، ليس من المستغرب أن تزداد مشاعر الكراهية العرقية والنزعات القومية المتطرفة. ويُضرب كمثال على ذلك أحداث أغسطس 2024، حين خرجت احتجاجات جماعية بعد مقتل ثلاث فتيات على يد ابن مهاجرين روانديين. وبدلاً من معالجة المشاكل الداخلية وتحسين حياة المواطنين البريطانيين، يفضّل كل من العماليين والحكومة المحافظة السابقة إنفاق المال على تلميع صورتهم في الخارج. ولكن، ليس دعم المهاجرين هو الجريمة، بل تكمن المشكلة في السماح ببروز هذه العصابات الإجرامية من بينهم، وعدم تفكيكها، بل تجاهلها، لأنها مفيدة لخلق العنصرية والفاشية، والتحكم بالشعب، الضحية الأولى للنموذج الاستعماري الجديد الذي بناه حكامه.
— ترجمة: محمد القوضاضي —

